أسرار التحنيط فى مصر القديمة.. بقلم الباحثة..هاجر الهوارى (باحثة فى التاريخ المصرى القديم)
من آمن بالحياة بعد الموت.. عاش فيها إلى الأبد
أسرار التحنيط فى مصر القديمة.. بقلم الباحثة..هاجر الهوارى (باحثة فى التاريخ المصرى القديم)

كتب : اللواء
على أرض مصر التي علّمت العالم أسرار الحياة والموت، وُلدت فكرة الخلود قبل أن تُكتَب الأساطير. لم يكن التحنيط عند المصري القديم مجرد طقس جنائزي، بل تعبيرًا عن فلسفةٍ عميقة ترى أن الموت امتداد للحياة، وأن الجسد هو الوعاء الذي تحفظ فيه الروح رحلتها الأبدية. ومن هذا الإيمان الراسخ بالبعث وُلد علم التحنيط، علمٌ جمع بين المعرفة الدينية والدقة الطبية والرمز المقدس، فحوّل الجسد البشري إلى أثر خالد يتحدى الزمن ويُثبت أن المصري القديم لم يمت قط، بل عاش في كل مومياء صامتة تشهد لعظمته حتى اليوم.
كان المصري القديم يعتقد أن الإنسان مكوّن من عناصر متعددة، منها الجسد المادي(خِت)، والروح(با)، والقرين (كا)، والاسم (رن)، والظل(شوت). ولكي يعيش في العالم الآخر، كان لا بد أن تبقى هذه العناصر متّصلة، ولن يتحقق ذلك إلا إذا ظلّ الجسد محفوظًا في صورته الأصلية. لذا لم يكن التحنيط مجرد وسيلة لحفظ الجسد، بل شرطًا أساسيًا لضمان الخلود وعودة الروح إليه بعد الموت.
وترجع الأسطورة أصل هذا العلم إلى قصة أوزيريس الذي غدر به شقيقه ست وقطّعه إلى أجزاء، فجمعت زوجته إيزيس جسده بمساعدة المعبود أنوبيس الذي حنّطه وأعاده إلى الحياة، ليصبح أوزيريس أول مخلّد في الكون وأول من خضع للتحنيط. ومنذ ذلك الحين أصبح التحنيط طقسًا مقدسًا يتولاه كهنة مختصون يسمَّون “خِرِب”، وكانوا يؤدون عملهم في أماكن مخصّصة بالقرب من الجبانة، مرددين التعاويذ التي تضمن طهارة الجسد واستعداده للرحلة الأبدية.
وقد كشفت لنا البرديات المصرية القديمة كثيرًا من أسرار هذا العلم المهيب. ففي بردية بولاق 3 وبعض البرديات الأخرى وُجدت تعليمات دقيقة تصف خطوات عملية التحنيط ودقتها، مثل أيام التجفيف بالنطرون، وأنواع الزيوت والراتنجات المستخدمة في دهان الجسد. فمن خلال البرديات تبين لنا انها كانت تحتوى على نصوص طقسية تُتلى أثناء التحنيط، تتضمن أدعية لتطهير الجسد واسترضاء الآلهة حتحور وأنوبيس. وتُظهر هذه الوثائق أن التحنيط لم يكن مجرد ممارسة جسدية، بل طقسًا لغويًا وروحيًا تُشارك فيه الكلمة إلى جانب اليد، فكل لفظ كان له أثر مقدّس في “إحياء” الجسد للبعث من جديد.
فكانت عملية التحنيط في أوجها في عصر الدولة الحديثة، واستمرت نحو سبعين يومًا، تتّبع فيها الكهنة خطوات دقيقة تبدأ بإزالة الأعضاء الداخلية، لأن المصريين رأوا أن سبب فساد الجسد هو تلك الأعضاء الرطبة. فكان المخ يُستخرج عبر الأنف بأدوات معدنية طويلة ورفيعة، بينما تُزال الأحشاء البطنية وتُغسل بزيوت وأعشاب عطرية، ثم تحفظ في أوانٍ فخارية تُعرف بالأواني الكانوبية، يَحرس كل منها أحد أبناء الإله حورس الأربعة. أما القلب فكان يُترك داخل الجسد لأنه مقرّ الفكر والضمير، وهو الذي سيُوزن في محكمة أوزيريس مقابل ريشة ماعت – رمز الحق والعدل.
بعد ذلك يُجفف الجسد بملح النطرون لمدة أربعين يومًا تقريبًا، ليزول الماء منه تمامًا، فيصبح مقاومًا للتحلل. ثم يُدهَن بزيوت ودهون عطرية ويُملأ بالكتان المشبّع بالراتنج ليحتفظ بشكله الطبيعي. وبعدها يبدأ اللفّ في طبقات متعدّدة من الكتان الأبيض النقي، وبين كل لفافة وأخرى توضع تمائم مقدسة لحماية الميت من الأرواح الشريرة، وأهمها تميمة الجُعران القلبي التي تضمن أن يتحدث القلب بالحق يوم الحساب.
وفي النهاية يوضع الجسد داخل تابوت خشبي أو حجري مزيّن بالنصوص والتعاويذ، ثم يُحكم إغلاقه داخل التابوت الأكبر أو السركوفاج، وتُقام له الشعائر الجنائزية التي تضمن انتقاله بسلام إلى العالم الآخر، حيث ينتظره أوزيريس ليحكم في مصيره الأبدي.
لم تكن طريقة التحنيط واحدة للجميع، بل اختلفت حسب المكانة الاجتماعية. فقد نال الملوك والنبلاء أفضل المواد والعطور والأقمشة وأدق الطقوس، بينما خُصص لعامة الشعب أسلوب أبسط يعتمد أحيانًا على التجفيف الطبيعي في الرمال. ورغم هذا التفاوت، ظلّ الإيمان بالخلود مشتركًا بين الجميع، لأن التحنيط في جوهره لم يكن مسألة ثراء، بل مسألة إيمان.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة، عبر التحاليل الكيميائية والأشعة المقطعية، أن المصريين القدماء امتلكوا معرفة مذهلة بخصائص المواد الطبيعية، فاستخدموا الراتنجات والزيوت ذات التأثير المضاد للبكتيريا، مما مكّن المومياوات من الصمود آلاف السنين بحالة مدهشة من الحفظ. وتدلّ هذه الاكتشافات على أن التحنيط لم يكن عملاً غامضًا كما ظنّ القدماء الإغريق، بل علم دقيق سبق الطب الحديث في فهم الجسد وعمليات التحلل.
إن التحنيط ليس مجرد تقنية حفظ للجسد، بل فلسفة كاملة تعبّر عن نظرة المصري للحياة والموت. ففيه يلتقي العلم بالإيمان، والمادة بالروح، والإنسان بالإله. وفي كل مومياء باقية حتى اليوم يتجلّى إصرار المصري القديم على هزيمة الفناء، ليبقى صوته حاضرًا بعد آلاف السنين.
فبين لفائف الكتان وصمت المقابر، لا تزال مصر القديمة تهمس للعالم أن الخلود لم يكن أسطورة، بل إرادة. وأن من آمن بالحياة بعد الموت، عاش فيها إلى الأبد.
–




