السيرة السيناوية الجزء الثانى (العهد) روايات البطولة خلف الخطوط ..هدهد سيناء شلاش الحلقة الثانية : العودة الأولى
روايات البطولة خلف الخطوط بمناسبة الاحتفال بعيد عيد تحرير سيناء 25 ابريل

السيرة السيناوية الجزء الثانى (العهد) روايات البطولة خلف الخطوط ..هدهد سيناء شلاش الحلقة الثانية : العودة الأولى

كتب : اللواء
أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه، بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعًا من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
العودة الأولى
يحكى لنا عادل ابن البطل “شلاش” على لسان والده عن يوم خروجه من معتقل الصهاينة:”… أنه بدأت بشائره قبل أسبوعين من الإفراج عنا، وذلك عندما زارنا مندوب الصليب الأحمر الدولى فى سجن “المجدل” كعادته كل شهر، وسألته:”ما فيش تبادل لنا إحنا كمان زى الأسرى؟” فرد المندوب وهو سويسرى الجنسية، وكان متعاطفا معنا قائلًا: ” الحكومة الإسرائيلية تطلب من مصر تسليم بعض الجواسيس، ولم نتلقى من مصر أى رد حتى الآن” عندئذ شعرت أنا ومن معى أن فرج الله قريب، لأن معنى تأخر الرد، أنهم يدرسونه بعناية، ولم يتجاهلوه، وربما نحن فى قائمة الاسماء التى يتدارسون أحوالهم.
وجاء الثالث من شهر مارس سنة ألف وتسعمائة أربعة وسبعين وكان يوم الأحد، وكنت فى طريقى إلى العمل في فناء السجن، حيث تقابلت مع ثلاثة من زملائى المجاهدين المصريين المحكوم عليهم فى قضايا مشابهة لقضيتى وهم : حسن على خلف، و مبارك أبو صلاح، وسالم غنيم، وكانوا جالسين معا فسألتهم: لماذا لم تخرجوا للعمل؟ .. فقالوا: منعونا النهارده من الخروج، وفعلا عندما وصلت إلى باب الخروج إلى الفناء منعنى الحارس الإسرائيلي واسمه “بكارا”- يهودى مغربى – وقال لى:”ارجع أنت ياشلاش.. مفيش لك خروج النهارده”.
وكان معى معتقل فلسطينى يدعى”طبش” فسأل الحارس: وأنا كمان أرجع؟ فرد عليه:ترجع ليه .. هوه أنت مصرى؟ .. فعرفت أن هناك شيئا هامًا يتعلق بالمعتقلين المصريين.
توجهنا نحن الأربعة أنا، وحسن خلف، ومبارك، وسالم – إلى المكتبة، ولم تكن مكتبة بالمعنى الصحيح بل كانت مكان يطلعوننا فيه على أخبار الصهاينة وكيف انهم شعب متقدم وحر، بالطبع يدعون علينا ذلك لنفتن بهم، لكننا كنا نعتبر تلك المحاولات هى أيضا من صور التعذيب النفسى فحرصنا على الصبر والإنتظار…، وفى المكتبة حيث وجدنا مصطفى حمدان قطامش وهو من أبناء العريش.
بعد هذا اللقاء وفى نفس اليوم استلمنا متعلقاتنا من السجن، ثم وضعوا القيود الحديدية فى أيدينا وأرجلنا وركبنا أوتوبيس كان يقف فى فناء السجن، وعندما صعدنا إلى الأوتوبيس وجدنا به أثنين آخرين من عرب فلسطين.. وعلمنا أنهما متهمان أيضاً بتهمة التجسس لصالح مصر، ولم يكونا على علم بقرار الإفراج عنهما، إنما علموا بهذا الخبر فقط عندما ركبوا الأوتوبيس الذى توجه بنا إلى سجن “غزة” وهناك قضينا جميعا ليلتنا .. ولم ننم طبعاً من شدة الفرح فقد تملكتنا الأمال بالخروج والعودة لسيناء، ونحن نكاد لا نصدق حالنا الذى صرنا إليه فى هذه الليلة، وتساءلنا: هل سنكون باكر وسط أهلينا فى مصر بعد هذه السنين الطويلة من المعاناة.. وفى سجن “غزة” تقابلنا مع شخص ثالث باسم “حسن” وكان محكوم عليه بتهمة التجسس أيضا لصالح مصر، ولكنه كان يقضى عقوبته فى سجن “غزة”.
وفي صباح يوم الإثنين الرابع من شهر مارس تحركنا بنفس الأوتوبيس من غزة متجهين إلى العريش فى طريقنا إلى القنطرة شرق، وكانت القيود الحديدية لا تزال فى أرجلنا وأيدينا، وكانت الستائر مسدلة على شبابيك الأوتوبيس ومحظور علينا رفعها، إلا أننى كنت أختلس النظر من آن لآخر من خلف الستائر – وقد دمعت عيناى لأول مرة عندما وصل بنا الأوتوبيس إلى بلدة “نجيلة” بشمال سيناء وهى مسقط رأسى، فتاقت نفسى إلى النزول بها للاطمئنان على أهلى وعشيرتى، ولكن الأتوبيس استمر فى السير إلى أول نقطة لقوات الطوارئ الدولية فى “جلبانة” وتوقف هناك حيث قام الصهاينة بفك القيود من أيدينا وأرجلنا، ثم استمر الأوتوبيس فى السير إلى النقطة الأخيرة لقوات الطوارئ الدولية فى منطقة “البرج” حيث تم التسليم والتسلم.
… وكنا حتى هذه اللحظة غير مصدقين ما يحدث أمامنا فالصهاينة لايؤتمن جانبهم، وليس لهم كلمة شرف، ويمكنهم أن ينكثوا العهد والميثاق والإتفاق فى أى لحظة.
لذلك تدافع المفرج عنهم بلا نظام إلى خارج الأوتوبيس غير عابئين بالصهاينة أو بمندوب الصليب الأحمر الدولى، وذلك بمجرد رؤيتنا لضباط المخابرات المصرية الذين نعرفهم جيداً، ويعرفوننا، وأصابتنا نوبة من الفرح الغامر، ووقف الجميع يشاهدون هذا المنظر العفوى التاريخى، وقد بادلنا أحد الضباط المصريين صيحات الفرح والدموع قائلا بأعلى صوته حمد الله على السلامة، اطمئنوا البلد بخير، والقوات المسلحة المصرية بخير، وأهاليكم بخير، وكان لصوته وانفعاله أكبر الأثر فــــــى تهدئة نفوسنا من التوتر والإنفعال الذى أصابنا.
بعد أن ركبنا الأوتوبيس المصرى شعرنا براحة كبيرة لا يمكن وصفها، ثم انطلق بنا إلى القاهرة، حيث وجدت الأهل فى انتظارى، واندفعت ابنتى الوحيدة “نادية” تجاهى فإحتضنها وضممتها إلى صدرى بقوة لأول مرة بعد خمس سنوات ونصف السنة.
واستقبلنا ضباط المخابرات المصرية استقبالا رائعا، واجتهدوا على راحتنا، وبعد أن استمعوا منا إلى ظروفنا وأحوالنا، هيئوا لنا وسائل العودة إلى منازلنا فى مناطق التهجير”.
… ويحكى “عادل” عن أول ليلة لوالده وسط أسرته بعد أن نال حريته،:” … ونام “شلاش” وسط أهله لأول مرة، وهو يتنفس الحرية، ولكن لم تكن سعادته كاملة، فقد كان فى مكان غير سيناء التى نشأ فيها، وكان يتطلع إلى اليوم الذى تعود فيه بالكامل، ليعود إلى أهله ويستنشق هواءها النقى العليل”.