القوة الناعمة المصرية … ناقوس الخطر..بقلم لواء دكتور/ سمير فرج

القوة الناعمة المصرية … ناقوس الخطر..بقلم لواء دكتور/ سمير فرج

كتب : اللواء
تُعرف كليات الدفاع حول العالم، ومن بينها كلية الدفاع في أكاديمية ناصر العسكرية، القوة الشاملة للدول بالاعتماد على عدد من العناصر، منها القوة العسكرية للدولة، وقوتها الاقتصادية، والقوة السياسية، والقوة الجيوبوليتيكية، وكذلك قوتها الناعمة، وغيرها من أشكال القوى.
وفي الماضي، كانت القوة العسكرية تعتبر هي العنصر الأساسي والأهم في تحديد قوة الدولة، أما اليوم، فقد تصدرت القوة الاقتصادية العوامل المؤثرة لتصنيف القوة، باعتبار أن القوة الاقتصادية هي المُمكن الأساسي لبناء جيشاً قوياً، وتسليحه بأعلى درجات التكنولوجيا والعلم والمعرفة، كما أنها العامل المحدد لقدرة الدول على خوض حروباً طويلة الأمد، اعتماداً على ما تملكه من موارد اقتصادية.
ولعل أقرب الأمثلة على ذلك، هو الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، التي اندلعت منذ ثلاث سنوات، واعتمدت فيها روسيا على قوتها الاقتصادية، لتسليح جيشها، وتحمل عواقب تلك الحرب، التي لم تنته حتى كتابة تلك السطور، بينما اعتمدت أوكرانيا، بصورة شبه كاملة، على الدعم الأميركي، سواء اقتصادياً أو عسكرياً، والذي لولاه لما تمكنت من الاستمرار في هذه الحرب لأكثر من شهور معدودة.
وفي ظل العالم المفتوح، في العصر الحديث، تظهر أهمية القوة الناعمة بشكل واضح. فاليوم، لا توجد حواجز بين الشعوب؛ فما يحدث حول العالم، يصلك، في نفس اللحظة، من خلال السماوات المفتوحة، عن طريق التليفزيون أو التطبيقات التكنولوجية المثبتة على هاتفك المحمول.
جدير بالذكر، أنه خلال العقود السابقة، كانت من أهم عناصر القوة الشاملة لمصر هي القوة الناعمة، المتمثلة في الإنتاج الفني والثقافي، من أعمال سينمائية، ودرامية، وموسيقية، والذي مكن الفن المصري من دخول كل بيت في العالم العربي، من المحيط إلى الخليج، وأصبح مألوفاً ومحبوباً لدى جميع الشعوب العربية، حتى أن اللهجة العامية المصرية أصبحت مفهومة ومستخدمة في معظم الدول العربية، وأصبحت جزءاً من الثقافة اليومية في هذه المجتمعات.
وخلال الأعوام الماضية، أثناء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تم التعاقد معي من قِبل إحدى المحطات التليفزيونية، التابعة لإحدى دول المغرب العربي، لتقديم برنامج أسبوعي بعنوان “ساعة سياسة”، يُبث على الهواء مباشرة، في مساء كل خميس، بهدف تحليل الأحداث العالمية، خاصة تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، بطريقة مبسطة ومباشرة، وبلهجتي المصرية المعتادة.
خلال أربعة شهور فقط، حقق البرنامج نجاحاً كبيراً، وأصبح حديث المجالس في هذه الدولة.
وتلقيت العديد من الاتصالات من السفير المصري هناك، وكذلك من الملحق العسكري المصري، الذين أكدوا على وضوح تأثير البرنامج، إذ صار له جمهوراً ينتظر تحليلات “الجنرال المصري سمير فرج”، الذي يتناول القضايا العالمية بأسلوب سهل وبسيط. ولكن فجأة، توفيت شقيقتي – رحمها الله – وكانت قد أوصت بأن تُدفن في مدينة بورسعيد بجوار والدتي، رحمها الله. وبالفعل، بدأت ترتيبات الجنازة والدفن في بورسعيد، وكان العزاء مساء الخميس، في نفس توقيت بث الحلقة المعتادة.
فأبلغت القناة، وطلبت تأجيل الحلقة، نظراً لهذا الظرف الإنساني الصعب، خاصة وأن شقيقتي كانت عزيزة جداً على قلبي، ولها مكانة خاصة في حياتي. إلا أنه مع الأسف، قوبل هذا الطلب برفض شديد من رئيس القناة، حيث قال “هناك مواقف لفنانين يتوفى إحد ذويهم في الصباح، ومع ذلك يقدموا عروضهم المسرحية في المساء، لأن جمهورهم في انتظارهم”، مضيفاً أن العقد المُبرم بيننا يلزمني بتقديم الحلقة، مهما كانت الظروف. والحقيقة أنني أصررت عل رفض تقديم الحلقة، لأن الظروف النفسية والترتيبات لم تكن لتسمح بذلك على الإطلاق، بل وفسخت التعاقد مع القناة، نظراً للطبيعة الجافة لمسؤوليها.
وفي صباح اليوم التالي، تلقيت مكالمة هاتفية من السيد السفير المصري هناك، قال لي: “يا فندم، البلد كلها زعلانة. الناس هنا اعتادوا على أسلوبك وتحليلك، وأهم ما كان يميز البرنامج هو لهجتك المصرية التي يفهمها الجميع ويشعرون معها بالألفة … فقد الجمهور ارتبط باللهجة المصرية وبأسلوبك المبسط، والمباشر، في عرض الأحداث”. وبعد مرور شهر على توقفي عن تقديم البرنامج، تعاقدت القناة مع جنرال من إحدى دول الشام، لتقديم البرنامج، إلا أن شعبية البرنامج تراجعت، لأن المشاهدين تعودوا على اللهجة المصرية، التي أصبحت جزءاً من أسلوبهم اليومي في تلقي الأخبار وفهم التحليلات السياسية. وعلى أثر ذلك، حاول مسئولو القناة التواصل معي من جديد لتجديد التعاقد، لكنني رفضت.
وهكذا يتضح أمامنا أهمية القوة الناعمة المصرية، إلا أن ذلك لا يعني إغفال التهديد الجديد، الذي يواجه تلك القوة، وهو انتشار المسلسلات التركية، التي بدأت تدخل كل بيت عربي، بعد دبلجتها باللهجة الشامية، سواء اللبنانية أو السورية، وهو ما يؤثر، حتماً، على حصة الدراما المصرية في البيوت العربية. وعند تحسن الأوضاع في سوريا، فمن المتوقع استئناف الدراما السورية، المتميزة، التي شهدت تراجعاً شديداً خلال سنوات الحرب، مما سيشعل المنافسة، وهو الشئ المحمود، إذا من انتبه لها القائمين على تلك الصناعة الحيوية.
ومن هنا، أطلق جرس إنذار لصناع الدراما المصرية، بضرورة استعادة النشاط سريعاً، والتركيز على اختيار المحتوى الهادف، وإلا فقدنا ما تبقى من أثر للقوة الناعمة المصرية في العالم العربي. كما أوجه، أيضاً، رسالة إلى السيد وزير الثقافة، وكل الجهات المختصة، للنظر في أهمية دبلجة الأعمال التركية وغيرها من الأعمال الأجنبية باللهجة المصرية، خاصة اننا نمتلك الإمكانيات البشرية والفنية والإعلامية القادرة على تنفيذ هذه المهمة بكفاءة.
مصر تمتلك ممثلين وفنانين عظماء، ومؤسسات إعلامية قوية، ولدينا كوادر مهنية يمكنها العمل على إعادة تقديم هذه الأعمال بطريقة مصرية خالصة. وهذا جرس إنذار للحفاظ على القوة الناعمة المصرية.
Email: sfarag.media@outlook.com