الاستثمار الثقافى والمصرى الجديد (16) الذات المنتمية والذات المغتربة .. بقلم محمد نبيل

الاستثمار الثقافى والمصرى الجديد (16) الذات المنتمية والذات المغتربة .. بقلم محمد نبيل

كتب : اللواء
تبعًا لما اعتاده العدو الأزرق من الهجوم بثلاثة تكتيكات لاتجاهات الهجوم، وهم: الرئيس والثانوى والخداعى، حتى لا يُعلم عنه أي منهم ذو التأثير الأقوى أو المقصود, لذا كانت استراتيجيته الجديدة بعد فشل تقويض القوة العسكرية واستنزافها؛ محاولات يائسة فى القضاء على الشرطة, وبعد عدم تمكنه من التركيع الاقتصادى للدولة المصرية, وأيضًا بعد ما خابت مساعيه فى حلحلة الدولة المصرية وتحويلها لحالة السيولة أو الرخوة, وذلك بعد أن استعادت مصر تنامى قواتها العسكرية وتنوع تسليحها وتعدد ميادين التدريب المشترك مع قوات دول المدارس العسكرية الغربية المختلفة والعربية الساعية للتطوير, فضلًا عن تبنى النهج العلمى الحديث فى إعداد المقاتل ليتوافق مع متطلبات التحديات الراهنة, ونشوء كيانات علمية عسكرية جديدة، وبالمثل كان الأمر -بنجاح- فى المجال الشرطى, ومن ناحية انحياز الدولة للأجيال القادمة كانت المشروعات التنموية العملاقة التى بدأت بتوحيد الصف المصرى فى إنجاز قناة السويس الجديدة فى خطوة جماعية أذهلت العالم وتلاها حزمة المشروعات الاقتصادية التى غيرت ملامح الداخل المصرى, وعروجًا على أعظم مشروع اقتصادى ذي لمحة إنسانية وبُعد اجتماعى وهو (حياة كريمة).
لذا؛ لم يكن أمام الآخر سوى اتباع استراتيجية مختلقة من خفايا معارك الجيلين الرابع والخامس، توجه منصات هجومها تجاه الإنسان المصرى, وهو المستهدف فى الأساس فى معارك تحديات الوجود أو العدم للذات الوطنية التى باتت تتعرض لهجمات غير تقليدية, فكانت قضايا شديدة الخطورة على الشخصية الجمعية، مثل: (الاغتراب والشذوذ والإلحاد)، وهى مسميات جديدة لأسلحة الهجوم على الشخصية المصرية.
ولأنه من المتعارف عليه علميًّا فيما يخص دراسات علمَى النفس والاجتماع أولًا, وتاريخيًّا ومن خلال شهادات كبار المنصفين الغرب من المستشرقين: بأن الشخصية المصرية تتصف بكونها اجتماعية ومتعايشة فى استقرار اجتماعى منذ سبعة آلاف عام من التحضر والمدنية, وأيضًا كان انتماء المصريين لأرضهم متأصلًا فى الوجدان وثابتًا فى الضمير الجمعى، حتى صار ممزوجًا بالإرث والتراث فى الحكى الشعبى والغناوى والمواويل والتمثيل والتجسيد والتصوير فى فنون المصريين المتنوعة، ومعزوفًا ومسموعًا ما بين الحناجر والآذان الوطنية، ويكفى أن مصر هى الدولة الوحيدة التى أطلقت على مفردة (الأرض) أنها (العرض)، كما أن المصرية كانت أمًّا أو جدة أو ابنة أو زوجة ما زالت تغرس فى ابنها وحفيدها وأولادها وزوجها أن: الحفاظ على الأرض هو بمثابة الذود عن الشرف، وأن ما دونه الموت بخلود الهامة المرفوعة, فتلك العلاقة بين الإنسان وأرضه لا توجد سوى فى مصر, ولم تسطرها الأدبيات الإنسانية أو الدراسات العلمية لشعوب أو لأرض سوى المصريين ومصر, حتى أصبح الاعتقاد بقداسة الأرض والعرض متضمنًا فى عقائد المصريين الدينية.
ومن هذا القبيل استحال فصل المصرى عن أرضه، فخابت مساعى الاستعمار المحتل عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وكان البحث والتنقيب فى استعمار ثقافى تحدث الجميع عنه منذ نهايات حقبة السبعينيات ظنًّا وتوهمًا من الحاقدين أن مصريي السبعينيات هم فحسب القادرون على صنع النصر وبناء قلاع المنع! فسعى الاحتلال المستحدث إلى اعتماد نظريات هربرت شيلر عن (الهيمنة الثقافية) و(المتلاعبون بالعقول)، وتنظير آنا سيمونز وبول كندى وجوسيف ناى الذين تحدثوا عن استعمار العقول بالغزو الثقافى, فتسربت عبر وسائل الإعلام الرقمية والكلاسيكية، وامتزجت الدراما الإذاعية والتليفزيونية والسينمائية والمسرحية الخاصة(!) التى حلت محل الوطنية، وانتشرت مفردات (هجين) غريبة وعجيبة على ألسنة هؤلاء تروج وتكرر بين فئات المصريين المستهدفة عن جُمل: (وأنا مالى) و(هى بلدنا) و(يا عم على أد فلوسهم) و(بلدك فين يا جحا؟ اللى فيها أكل عيشى)… وغيرها من أقاويل تهدم ولا تبنى وتفرق ولا تجمع وتعزل ولا تحتوى، وهذا هو المستهدف بإقصاء الشباب من المصريين عن واقعهم وعزلهم عن أهاليهم وطمس الحلم الوطنى فى وجدانهم, وبالتالى يسعى الشباب إلى الخروج عن عباءة الوطن أرضًا وأهلًا, وبأشكال عدة تهون الروح أمام الحلم الكاذب بالخروج من الأرض، كما اتفق عليه إعلاميًّا باصطلاح (الهجرة غير الشرعية)، التى من الممكن أن يكون لها مبرر -مع التحفظ- لشعوب قهرتها الحروب والصراعات، وغابت من مشهدها قواتها المسلحة، وانهارت أنظمتها أو كادت، إنما ليس الأمر كذلك فى مصرنا -حفظها الله- فما مبرر حالة (الاغتراب) التى يروج لها الإعلام والدراما -إلا مَن رحم ربى- ولأن الدراسات الاجتماعية العلمية الداخلية والخارجية! أكدت أن ثروة مصر الحقيقية هى (الشباب)، الذين يمثلون طبقًا للإحصاء العشرى أكثر من 60% من قوام الشعب المصرى، وأيضًا مما يبشر (لنا) وينذر (لهم) بأن القادم ملك المصريين دون سواهم الذى أكدت بحوثهم الديموجرافية أنهم شعوب كهلة وعجوز, كما جاء بتوصيات مؤتمرات السكان بدءًا من ريو دى جانيرو وحتى الآن.
الأعجب هو أن بعض قادة الرأى -غير الوطنيين- بيننا يلعنون الاغتراب علنًا ويعبدونه سرًّا؛ إذ تجدهم يرسلون أبناءهم للتعليم بالخارج ليس بهدف العودة بنواصى العلم إلى الوطن، إنما بهدف استبقاء أولادهم هناك, وتجد بعضًا من القادرين (رجال المال) يرسلون زوجاتهم لتضع مواليدهم هناك خلف المتوسط أو وراء الأطلنطى, وأصبحت تلك إحدى الطقوس الاعتيادية لزواجهم، وربما كانت من أولويات شروط الزواج من البداية, لتخرج أجيال (هجين) نصفها مصرى (مهجور)، والنصف المعلن المتباهى به (غربى) أو (أمريكى)، والأعجب أن هؤلاء الآباء يتحدثون بصفاتهم المجتمعية إعلامية كانت أو علمية جامعية أو اقتصادية عن الوطن، ويتغنون بفضائل الانتماء إليه (أيها الخجل أين حمرتك؟!).
ونستكمل فى القادم إن شاء الله عن معارك (الاغتراب)، ونتحدث عن الذات المنتمية للأرض والناس والذات المغتربة عن أصها, ولنبنى أركانًا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وإدراكه لإمكاناته فى التغيير, وعلى الإنسان أن يُعيد تقييم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية فحسب، وإنما الباطنة أيضًا, ويعود كما كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل، وليس الشبه والمفعول به!.