الاستثمار الثقافى (7) الذات الثابتة والذات المتحركة.. بقلم محمد نبيل

الاستثمار الثقافى (7) الذات الثابتة والذات المتحركة.. بقلم محمد نبيل

كتب : اللواء
تحدثنا عن أن إدراك الإنسان لماهية وجوده بشكل يمكّنه من اكتشاف طاقات الخلق وإمكانات الإبداع الكامنة فى خفايا ذاته, وربما يرجع الفضل فى هذا الاكتشاف الأعظم –اكتشاف الذات– ما يؤدى إلى ممارسة الإنسان لآليات تحققه، من خلال تفاعل المكونات الخمس للإنسان الحقيقى وليس للإنسان الصفرى، وهى ذاتها المكونات التى تمكنه من التغير للأفضل والتحرك نحو الارتقاء بإنسانيته، يبقى تفاعل الضمير والعقل والروح والنفس معًا ليشكلوا جميعًا طبيعة العنصر الخامس الأكثر ظهورًا وألقًا بين بنى الإنسان، ونتحدث هنا عن “الذات”، وسابقًا كان الحديث عن الذات الموقرة وغيرها من الذوات الطافية والهشة، وصفاتهم جميعًا، وسلوكياتهم ومظاهر تميز إحداهن عن الأخرى، وكان علينا أن نعيد التساؤل من جديد إلى أى ذات نرغب فى أن ننتمى: الذات الموقرة، أم الطافية والهشة؟! والآن يأتى الحديث عن الذات الثابتة والذات المتحركة، وربما أول ما يتبادر إلى الذهن هو الصراع الجدلى الفلسفى بين نظريات التغيير والثبات، وأدبيات الصيرورة والجمود، وتمنحنا اللغة الثرية رحابة التجول بين مفردات الثبات ومرادفاتها ومفردات الحركة وأخواتها، وجميعها تتنقل ما بين الإيجابى من صفاتها إلى السلبى منها، فربما كان الثبات يعنى الرزانة والحكمة والتحمل، وأيضًا قد يعنى الجمود والتبلد والتأخر, وقد تعنى الحركة التطور والارتقاء والتقدم، وأيضًا يذهب البعض بالحركة إلى التقلب والتلون والتظاهر، ولكن الأمر هنا مختلف نوعًا ما؛ فاختيارنا إلى أى الطريق نسير، يعنى –حتمًا– وصفًا لذاتنا؛ لأن الاختيار يعكس طبيعة الإنسان ومعارفه وخبراته وقدراته على الانتقاء والتمحيص من عدمه، فمَن يختار من الحركة أساسًا لوجوده ينتمى إلى هريقليطس، وهو أول مَن نحت اصطلاح الصيرورة الذى يعنى هنا التغيير والتجديد والنشوء والارتقاء، حتى أنه قال: “لا شيء فى هذا العالم ثابت عدا التغيير”، وبالغ فى اندفاعه ناحية التغيير كأساس للوجود الإنسانى حتى صرح بمقولته الأشهر: “لا شيء يبقى على حاله”، معتقدًا أنه لا وجود للذات الإنسانية دون تغيير وتحرك نحو الأمام والارتقاء تجاه الأعلى، وعلى العكس منه تمامًا كان إيمبيدوكليس الذى روج بشكل قاطع إلى الثبات منبهًا إلى أن التغيير هو محض خيال فى عالم الحقيقة الثابتة، ولداوود الملك فى سفر الجامعة (1-12) هنا فصل حديث: “ما كان فهو ما يكون والذى صنع فهو الذى يصنع، فليس تحت الشمس جديد”، وقال: “الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانًا وإلى مداراتها ترجع الريح”، وقال: “إن وجد شيء يقال عنه انظر هذا جديد! فهو منذ زمان كان فى الدهور التى كانت قبلنا” كما جاء فى العهد القديم، وإذا أردت أن تتحدث عن تداول الأيام، وعن كل يوم هو فى شأن، وغيرها فى النصوص المقدسة؛ ستجد ما يؤيد مبتغاك من الحركة فى شكلها الإيجابى والثبات فى معناه الأسمى، وكذا يسوق علم الاجتماع لمؤسسه ابن خلدون الأندلسى وليس أوجست كونت الفرنسى إلى معنى مشابة للتغيير الذى يميل إلى المنحى الإيجابى فى الحركة وهو التطور والتحضر كما فى مقدمته التى تناولت قوانين العمران البشرى فى بابه الأول والبدوى فى الثانى والحضرى فى بابه الثالث ضمن أبوابه الست لمقدمته الخالدة، وهنا يدور الجدل المعرفى بدءًا من النص المقدس إلى الفلسفى مارًّا ببدايات علم الاجتماع إلى علم اللغة، تبحث الذات عن الحركة بهدف التغيير للأفضل والارتقاء لأعلى وتحقق الوجود الإنسانى المتحضر، وقد تسعى إلى الثبات على المبدأ ومقاومة الوافد الهدام من الآخر، وترفض الحركة نحو التغير القادم مع ريح الأعادى، لكن هنا وقفة حتمية وكاشفة لمعنى الثبات فى مواجهة التغير السلبى الوافد، هل هنا المقصود هو الدفاع من خلال السكون أم بآليات الحركة، وأجد من المحتم طرح إحدى أهم نظريات الدفاع، وهى: “إن الهجوم هو خير وسيلة لتحقيق دفاع ناجح”، كما كانت خطط القائد أحمس فى الدفاع عن سيناء وطرد الهكسوس منها عن طريق الهجوم، ومن بعده صاغ عباقرة الفكر العسكرى تلك النظرية كما فندها فى القرن السادس قبل الميلاد (سون تسو) وفى عام 1521 (نيقولا ميكيافيلى) فى كتاب صدر لكل منهما بعنوان “فن الحرب”… وبالتالى يستوجب الثبات على المبدأ هنا الحركة فى حد ذاتها انتقالًا من الثبات إلى الفعل، وفى هذا اعتناق لمسارات التغيير، ولذلك على الذات أن تكون متحركة دائمًا؛ إما فى حالة الدفاع عن ثوابتها، أو سعيًا للتطور والارتقاء، وتكون معانى الحركة أكثر تحققًا ووجودًا لذاتها قياسًا لمعانى الثبات التى قد تؤدى بذاتها إلى الفناء والهلاك واللاوجود، وبالتالى تأتى مقدمة المعادلة المنطقية التى تفصح عن أن الحركة المخططة، المحسوبة، الممنهجة، اليقظة تؤدى -كمقدمة معادلة- إلى نتيجة -متوقعة منطقيًّا- وهى التطور والتحضر والتحقق وإثبات الذات، أى أن الذات المتحركة ذاتًا موجودة، ومقابلها الذات الثابتة التى هى ذات صفرية تتحقق بإضافتها إلى غيرها وليس بوجودها المنعدم اللامحسوس، وبدا جليًّا من المقارنة أن الذات المتحركة ذاتًا تتجول فى حال المكان وظرف الزمان، وتتطور لتكون هى مواقيت للزمان ومحطات للمكان، عكس هذه الذات الثابتة التى يتخطاها كل شيء، ولا يعيرها المكان اهتمامًا إلا كما يعطى لسكان القبور حيزًا ينتهى ويتلاشى فى زمان وجيز.
ولكل ذات حرية الانتماء ما بين الذات المتطورة المتغيرة المتحركة أو تلك الذات الثابتة الجامدة المتبلدة الرجعية، ونستكمل فى القادم إن شاء الله لنبنى أركانًا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وإدراكه لإمكاناته فى التغيير, وعلى الإنسان أن يعيد تقييم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية فحسب وإنما الباطنة أيضًا, ويعود كما كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل وليس الشبه والمفعول به!.