قوانين الخدمة العسكرية فى عهد محمد على (2/1) بقلم محمد نبيل
الجيش المصرى تاريخ مجيد وحاضر يصون المستقبل ..الحلقة الرابعة

قوانين الخدمة العسكرية فى عهد محمد على (2/1) بقلم محمد نبيل

كتب : اللواء
لما زار المارشال (مارمون) هذه الترسانة عام 1834 أعجب بنظامها وأعمالها وقال عنها: “إن معامل القلعة تضارع أحسن معامل الأسلحة فى فرنسا من حيث الإحكام والجودة والتدبير”.
ولما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيمًا قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة وهذه المبادئ الحقيقية هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية، التى أشرقت مع شمس الدنيا من “مصر” كفجر للضمير الإنسانى، وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.. إن ما نعيشه –مفروضًا علينا– يخالف ما اعتادت عليه الإنسانية، ويُغلب قانون الغاب، عودًا على ما كان قبل التأريخ الإنسانى.
ملخص ما سبق..
رأى محمد على أن إنشاء جيش مصرى حديث لا يقام إلا بأن يجد كفايته من السلاح والذخيرة والمعدات فى داخل البلاد؛ لأن الاعتماد على جلب العتاد من الخارج يعرض قوة الدفاع الوطنى للخطر، ويجعل الجيش والبلاد بأسرها تحت رحمة الدول الأجنبية التى تتحكم فى تموينه بهذه المستلزمات الضرورية لكيانه, لذا هدفت سياسته إلى إنشاء مصانع الأسلحة فى مصر؛ كى تكون مطالب الجيش منها متوفرة دومًا ومناسبه لما يتطلبه التسليح، وهكذا كان الجيش الحديث يسير على طريقين متوازيين أحدهما “العلم” والآخر “التصنيع”؛ ليضمن استمرار قوته وارتقاء كفاءته.
كان من المنطقى أن يكون هناك قانون يحكم سير الحياة العسكرية فى هذا الجيش الناشئ والمُعد ليكون بمثابة اللبنة الأولى فى تحويل مصر المحروسة من الولاية التابعة والرجعية إلى الدولة الحديثة، ليس فى مظهرها فحسب إنما فى جوهرها أيضًا, كما أن من المُقدر لهذا الجيش أن يحمى طموحات هذا الشعب ودولته، ليس فى الاعتداء على الغير إنما فى الحفاظ على مقدراته ومنجزاته الاقتصادية والثقافية والتعليمية، بل ويدعم توجهات هذه الدولة الحديثة فى الشأن الإقليمى والدولى, وبمعنى أدق يحفظ لمصر استقلال قرارها السياسى.
لذا كان لزامًا على مؤسس النهضة الحديثة لمصر أن يصيغ قانونًا يُنظم سير الحياة العسكرية وحقوق وواجبات أفرادها تجاه بعضهم البعض من جانب, وتجاه الدولة المصرية من جانب آخر, وكلا الجانبين بما يحفظ لهذا الجيش بقاءه وكفاءته فى تحقيق أهداف الدولة المصرية, وأخذ محمد على من الدول صاحبة السبق فى صياغة القوانين المشابهة ما يلزمه فى تحقيق مأربه بعناية ودقة، فكانت القوانين الفرنسية التى تمت ترجمتها للغة التركية والعربية (أو اللهجة المصرية من اللغة العربية), وتمت صياغة القوانين العسكرية للجيش المصرى آنذاك فى إطار يتضمن مئة وتسعة وثلاثين مادة، أو ما أطلق عليه حينها (139 قانونًا), وتصدرت صفحات القانون العسكرى أو ما أطلق عليه قانون ترتيب الخدمة الداخلية والأدب والسياسة للجنود البرية, وكانت أوامر الخديوى الأعظم: “إن جنود مملكته المحمية لا بد لها من الآداب والطاعة وحسن السياسة (التقاليد)، وذلك من خلال قوانين عدل لا يرى فيها ظلم ولا عدوان ولا مخالفة، ويكون معمولًا بهذا القانون فى جميع آليات (وحدات) القوات البرية، حتى إذا انتقل أحد من ضباط مملكته من رتبة إلى أخرى أو من جماعة إلى أخرى لا يجد فرقًا فى تراتيب الخدمة العسكرية، ولا شيئًا مخالفًا لما اتفق عليه للعمل به لتنظيم الحياة العسكرية”, وجاء فى افتتاحية القانون المخصص للقوات البرية ما هو معنى بالأصول العمومية فى الانضباط والطاعة: “.. لا شك أن قوة الحياة العسكرية مبنية على الانضباط وحسن السياسة فيما بين القوات وبعضها البعض، لذلك يأمل صاحب السعادة من أرباب الرتب العلية أن توجد الطاعة فيما بين أرباب الرتب التى دونها من غير معارضة أو مخالفة، حتى إن الأوامر التى تصدر لهم يجرى فعلها سريعًا كما هى حرفًا بحرف، مع الدقة وعدم التأخير وعدم المجاوبة والتشكى؛ لأن من المعلوم أن صاحب الرتب العليا هو الذى يعطى الأوامر”, ويستطرد الأمر الخديوى فى افتتاحية القانون لتأكيد احترام آدمية المقاتل من جانب رؤسائه وقادته، كما يجب عليه (المقاتل) لهم (القادة) كل التبجيل كالآتى: “وقد وقع التخريج من صاحب السعادة على أرباب الرتب العلية من أية درجة كانت أن لا يصدر من أحد منهم ضرب أو رفع يد أو إزعاج أو تهديد أو سفه أو ترذيل لأحد من أصحاب الرتب التى تحتها, وأن يرتب الجزاء على مَن يستحقه بموجب العدالة الطبيعية والطرق المرضية المبينة فى هذا القانون, وأن تعامل أرباب الرتب جميع مَن هو تحت أيديهم من القوات بالشفقة والرأفة والإنصاف”.
ويرى الصدر الأعظم أن ضرورة تطبيق القانون على جميع القادة والأفراد يحقق نمطًا من السلوك المستقيم داخل تلك القوة العسكرية الجديدة، التى من المهم أن تضمن سريان قوانينها ببقائها وصلابتها فيؤكد: “إن وجود الأدب والطاعة بين القوات موجب لشجاعتهم ومثبت لنصرتهم ومؤدٍّ إلى افتخارهم”, وهكذا تضمنت المبادئ العامة للقانون المستحدث مراعاة للأخلاق وآداب سلوكيات القوات على اختلاف مستوياتهم القيادية لمَن هم دونهم من القوات المرؤوسين لهم, بما يضمن استقامة الحياة العسكرية عبر نهج قانونى يلتزم به جميع أفراد الجيش المصرى. وفى الحلقة القادمة سنتطرق لعدد من القوانين المنظمة للعلاقات الرأسية والأفقية داخل القوات المصرية الجديدة.