أخبار عاجلةمقالات وابداعات

الهوية الثقافية (2) ثقافة القوة وقوة الثقافة .. بقلم محمد نبيل

الهوية الثقافية (2) ثقافة القوة وقوة الثقافة .. بقلم محمد نبيل

الهوية الثقافية (2) ثقافة القوة وقوة الثقافة .. بقلم محمد نبيل
الهوية الثقافية (2) ثقافة القوة وقوة الثقافة .. بقلم محمد نبيل

كتب : اللواء

 هناك ثقافة واحدة هي ثقافة القوة، حين أكون قوياً، يحترم الناس ثقافتى، وحين أكون ضعيفاً، أسقط أنا، وتسقط ثقافتي معى، فعندما كانت روما قوية عسكرياً، كانت اللغة اللاتينية سيدة اللغات.. وعندما سقطت الإمبراطورية الرومانية، صارت اللغة اللاتينية طبق سباكتي، … الثقافة، يا سيدتي، ليست في عدد الكتب التي أقرؤها، ولكنها في عدد الرصاصات التي أطلقها..” هكذا تحدث عن الثقافة وعن القوة الدبلوماسى والحقوقى شاعر سوريا الدمشقى، نزار توفيق قبانى، وربما كان فى دلالة مفردة الثقافة ما يعنيه من الناحية الوظيفية للمعنى هو الأساس الذى بنى عليه انتوني جرامتشى اداور المثقف العضوى ورسالته تجاه وطنه ومواطنيه تعتمد أولا: على أن ينزل من برجه العاج إلى نواة وطنه، وثانيا: أن يرتقى بمن حوله ثقافيا، وربما كانت الثقافة هنا ليست ـ فقط ـ الاداب والفنون، بل هى السلوك اليومى المتحضر النابع من أنماط تفكير متطورة ممنهجه تتأسس على العلم والمعرفة، وثالثا: الاهتمام فعلا عمليا وليس قولا شفاهيا بقضايا الوطن وهمومه، لا بالتجمل الزائف شكلا، وإنما بالجوهر الباطن فعلا، وفى هذا السياق اشتباك ضرورى لابد منه مع واقع الوطن والا لما سميت الثقافة (ثقافة) حيث انها تعنى تثقيف أسنة الرماح، وفى هذا ربما قصد لاعتبار الثقافة قوة لمن يتزين بها ويمسك بأسبابها، وهى هنا درعا يصون الوعى ويبنى الفكر.

وكما فى تاريخ الدولة المصرية القديمة والوسطى والحديثة فى عصر الأسرات، الذى سرده لنا بأمانة تاريخية وموضوعية  علمية راهب التاريخ المصرى القديم، العلامة سليم حسن فى موسوعته “مصر القديمة”… حيث قرأ الجميع فى موسوعته تلك أن الحضارة المصرية وهى ما تعنيه من نسق أخلاقى، ومنظومة قيمية، وحزمة مبادىء ترتقى بالانسانية فى جوهرها الحضارى، وفى مظهرها المدنى والذى تمثل فى علوم تطبيقية ذات صلة بالأفلاك والكواكب والأجرام السماوية، والهندسة والرياضيات، والطب، والزراعة، والرى، والبناء والعمارة، والفنون والآداب والفلسفات والفكر، ومع كل ذلك كان من نتاج الحضارة المصرية فى شكلها المدنى الجيش الأول فى التاريخ الانسانى، الذى كانت مدعاة انشاءه هو الحفاظ على الحضارة المصرية ومظاهرها المدنية، كذلك لم يختلف الحال فى بقية الحضارات التى نشأت بعدنا كالصينية، فاليونانية، والفارسية، ثم الهندية، إلى حضارات الإقليم كالبابلية والفينيقية والأشورية وصنعاء وغيرهم، اعطانا التاريخ ضرورة حتمية مفادها : “الحضارات لابد لها من جيش يحميها ويصون ثقافاتها”.

لعلك تجد جيوشا قبل أن تدرب وتسلح قواتها هى تزرع فى نفوسهم بذور العنف بغية إرهاب الفكر الإنساني، وبترجمة أناشيدهم العسكرية والوطنية تستكشف بمنتهى اليسر نواياهم العدائية الأبدية، وهي في النتيجة ليست إلا ثقافة قوة مفرغة من محتواها الأساسى، تقودها مشاعر أطماع التسلط، والهيمنة الهمجية، والأفضلية الجوفاء، وتخطط لفعل قسرى يخالف مسارات الحياة، ويعارض طبائع القوانين الحاكمة لبقاء الإنسانية، بهدف صنع وجود يخلو من روح الحياة، وتغيب عنه ثقافة التحضر الحقيقية (!) وتعلو ثقافة تجمح بالنشئ نحو التهور فى القتل دون تميز، وثقافة قوة تفتقرمبادىء كالعدل والحق، ويعوزها قيم الإنسانية، بلا هدف سوى نشر الرعب من خلال وأد الإنسانية بغير حق، وتلك ثقافات تشحن السلوك الإنسانى بمقومات تخلع عن المقاتل انسانيته وتعود به لقانون الغاب حيث الشره العنفوى الآيل إلى تدمير الذات والآخر معا، فكما قال المتنبى “لكل داء دواء يستطاب به .. إلا الحماقة أعيت من يداويها”.

والسؤال الأهم: هل عندما يضعف الجيش تموت الحضارة وثقافاتها؟ أم: هى الثقافة عندما تبور وتكسد تضيع حضارتها ومن ثم جيشها؟
عند نزار قبانى الإجابة عن السؤال الأول، وعند انتونى جرامتشى إجابة السؤال الآخر، إنما لدى النموذج المصرى، ولا عنترية فى نحت نموذجا مصريا خالصا، ولا أعتبر هذا الناتج حديثا فضفاضا، بل حقيقة تاريخية كما قدمها لنا المؤرخ سليم حسن، حيث نرى أن العلاقة بين الجيش كمظهر ونتاج أساسى من مظاهر الحضارة، وبين الثقافة كناقل لهذه الحضارة ، هنا نجد بعد ملاحظة تخلو من العناء، أنه كما أن الجيش حصن منيع للحضارة ومدنيتها، كذلك الثقافة حاضنة لهذه الحضارة، فالعلاقة هنا متشابكة ومركبة فى تناغم يستوعب السبعة الاف من السنون ـ المدونة ـ وهى خاصية تنفرد بها مصر بحضارتها وجيشها وثقافتها دون غيرها من بلدان المعمورة، وتلك قضية كما يقول أهل الحساب والمناطقة محسومة رياضيا وتاريخيا.

فعندما يجتمع رئيس مصر القائد الأعلى لقواتها المسلحة مع قيادات جيشها نجد حوار يستند على القوة الحقيقية والفاعلة غير المظهرية، وبصياغة مفعمة بثقافة الحضارة المصرية، لتشكل أركان الحوار فى أولها التقدير لما يقدمه رجال القوات المسلحة وتضحياتهم لصالح بقاء الوطن واستقراره، وثانيا: إن قوة هذا الجيش غير متعجلة وليست متوانية، فهى قوة تحكمها ثقافة رشيدة، وثالثا: لاتغتر قوة الجيش بقدراتها وامكاناتها، كما أنها لا تستهين بالآخرين مهما بدى ضعفهم، أو تظاهروا بذلك، فهى قوة تحكمها ثقافة تقدير الموقف، وحساب حجم العدائيات المحتملة، وجاهزية رد الفعل المناسب، وينتهى الحوار بين القائد ورجاله بثقافة تحكمها منظومة القيم والنسق الأخلاقى وهما من روافد الثقافة المصرية، فنجد أن فلسفة حماية الأوطان لدى الجيش المصرى ليست وظيفة كما هى فى كافة جيوش العالم على اختلاف مستويات القدرة والكفاءة لدى كل منها، لكنها عند المصريين رسالة ودور، تلك هى ثقافة القوة لدى الجيش المصرى، حيث إن حسابات القدرة والكفاءة، للمعدات والأسلحة والقوات عند عموم جيوش الدول والشعوب الأخرى هى الحاكمة لدى متخذى القرار، بينما لدى الجيش المصرى يتقدم هذه العناصر المتغيرة عنصرا ثابتا وأصيلا فى ثقافة القوة، وهى عقيدة الرجال، وإيمانهم ـ اليقين ـ بالتضحية الفطرية والعفوية بالروح فى سبيل الوطن والمواطنين، وربما بل الأكيد أن هذا العنصر هو الحاكم والفاصل فى تحقق النصر والنجاح فى آداء المهام على أكمل وجه، رغم المفارقات فى العدة والعتاد وتكنولوجيا التسليح التى غالبا ما يتفوق به الآخر، لكن عقيدة الجيش المصرى هى ما تجعل العدو ينهزم بالرعب بداية وقبيل اللقاء (ّ!).

هنا نرى أن ثقافة القوة والقدرة والكفاءة للجيش المصرى تحكمها قوة الثقافة النابعة من القيم والأخلاق والمبادىء، وفى هذا الحال تتموضع معا القوتين الصلبة والناعمة بذات القدرة والكفاءة.

 

لذا كان مقتضى الحال يستلزم ان تذوب الثقافة ( كقوة ناعمة) فى خلايا الوطن، فيتغنى الشباب القادم ببطولات آباء الأمس، ويرسمون لوحات زاهية لغد مشرق عوضا عن أزمنة العبوس، وينيرون دروب الواقع باضاءات العقل المستنير، ويبددون ظلاميات الجهل والرجعية بومضات القبس الالهى (العقل).

 

وضرورة الحال تستوجب نهضة ابداعية فى مجالات عدة تقودها قاطرة الثقافة، التى اتفقت أدبيات السياسة ونظريات الأمن الإجتماعى، والمسكوت عنه من نصوص أجهزة الجاسوسية العابرة للقارات، وخفايا متون المؤمرات الحاقدة، وجميع تلك الأنهار التى تصب فى بحر واحد يموج باضطرابات عاصفة للانسانية، ومهددة لبقائها، ولم يعد سرا على أحد أن العالم على شفا أقدار قد تعيد صياغة خارطته الجيوسياسية من جديد، ولذا كانت للثقافة الآن أدوار متوازية ومتتالية، أهمها هو: بناء وعى جمعى يدرك ماهية الأخطار المحدقة بالوطن، ويكشف بجلاء عن ضرورة التماسك والتخندق صفا واحد لمواجهة مايقال عنها وهى ما اتفق المعنيون والمهتمون بتسميتها بـ ( معارك الوجود).

ومن خلال آليات الاستثمار الثقافى فى مدن ووديان وقرى سيناء والقناة، وفى كفور ونجوع مصر العليا، وفى قرى دلتاها، وعند واحاتها الغربية، وفى تخوم سواحلها الشمالية والشرقية، لابد أن تصيغ الثقافة المصرية فعاليات وحراك ينحتان اصطلاح ( ثقافة القوة وقوة الثقافة) لبناء مصرى جديد يحفظ إرث النصر.

 

ولأن أهالى مصر من ناحيتها الشرقية هم أول من اعتادوا واعتدنا عنهم أنهم من يبادرون بتسديد فاتورة الدم والتضحية بالروح فى سبيل الوطن أجمع ومن أجل كل المصريين والتاريخ والحاضر يشهدان على ذلك، فسيناء والقناة هم خط الدفاع الأول فى الزود عن الوجود المصرى، وربما أورث هذا السلوك الاعتيادى فى وجدان شباب سيناء والقناة فعلا تلقائيا فى الإندماج السريع والتعبئة الفطرية فى مواجهة الوافد المعتدى بشرا كان أم فكرا، ولهذا كانت الصورة ذات الحقيقة الخالدة التى تجسدت فى ابداعات ثقافة المقاومة، وهى ثقافة تدعم قوة الثقافة وثقافة القوة معا

 

والحالة الاخرى التى تجسد فرحة المصريين بالنصر المبين، والانجازات التى تتحقق على أرض الواقع فى إطار التنمية الشاملة والمستدامة، وكأن المصريين لا يريدون احتفالا بالنصر بل على ثقافة القوة وقوة الثقافة أن يصنعانه من جديد.

إن الثقافة القوية التى يتحدث عنها جرامتشى لهى التى تنتقل من بين ابداعات هؤلاء المثقفين إلى عموم المجتمع وتبدو جلية فى قوتها فى أنماط التفكير الاعتيادية لأفراد المجتمع على اختلافهم وتنوعاتهم، بحث تنتهى فكرة احتكار المثقفين لأسباب ومفدرات الثقافة، بل تمتد أواصرها بدء من مبدعها وصولا إلى مستهلكها المتأثر بها فكرا ووجدانا وسلوكا، حتى تتحول الثقافة لتكون معنى ومبنى نمطيا واعتياديا فى محصلة فكر ووجدان وسلوك المجتمع ككل.

نستطيع أن نقول أن قوة الثقافة هى “مجموعة الأفكار والمعلومات والخبرات التي تنتشر بيننا ولها من التأييد الإجتماعي ما يحفظ دوامها وتطورها، ويكون أساسها الموروث الأخلاقى والقيمى وابداعات العقل الجمعى الفنى والأدبى والعلمى والفكرى والفلسفى، وهى مجموعة من الأنماط الفكرية والوجدانية والسلوكية الإجرائية التي تدور حول الحياة والاتجاهات العامة ومظاهر الحضارة التي نتميّز بها، وتُكسِبنا مكانةً خاصةً فى التاريخ الإنسانى وحاضره ومستقبله، وتشكل هويتنا الوطنية، وتحصن الوعى، وتصون الوجدان من الوافد من الثقافات الهدامة أو المعادية، التى تهدف إلى تشويه ملامح الشخصية الوطنية، وحلحلة ثوابتها القيمية، وهدم أركان مبادئها، لتحقيق ما يسمى بالهيمنة الثقافية والاحتلال الفكرى والانصياع الوجدانى والتقليد السلوكى”.

علّ المترقب أن يعى الرسالة ، ولعلّه يفهم طبائع المصريين التى خلقها الله فينا: نحن من نسمى الأرض (عرض) وأمهاتنا هن من يطلقن الزغاريد مع بشارات شهادات الأبناء، وعرائسنا هن من يتخضبن بطين النيل كان مخلوطا بماءه أو بدماء العرسان الفرسان، نحن من لعب أطفالنا بالأسلحة، وتزينوا فى الأعياد بالبدلة العسكرية، وفى كل بيوت المصريين عند أجمل زواياه صورة شهيد، وشهادة من جيش مصر بنوط الشجاعة والواجب لابن أو أب أو أخ، وفى خزانة الملابس أوفرول مخضب بدم الشهيد، وعلى الأبواب ـ دائما ـ تطرق أيادى رفقاء السلاح لتطمان على الأم والإبنة والأخت والزوجة لبطل رحل إلى الخلود ولم يمت، وكل تلك المشاهد تصيغ رسالة قوة الثقافة وثقافة القوة ولسان الحال يعلن:”علّهم يعلمون أننا نعشق الفداء لنحيا ألف حياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى